سيناريو انهيار التهدئة في إدلب شمال غرب سورية
أغسطس 23, 2022 3069

سيناريو انهيار التهدئة في إدلب شمال غرب سورية

حجم الخط

تقدير موقف بعنوان: "سيناريو انهيار التهدئة في إدلب شمال غرب سورية" ، يناقش من خلاله مركز جسور للدراسات احتمالاً مفترضاً، وهو عودة المواجهات العسكرية إلى محافظة إدلب، من خلال استعراض محددات ضامني مسار أستانا ومصالحهم في إدلب السورية، بالإضافة إلى العوامل المؤثرة في استدامة الهدوء أو انهيار التهدئة.       

تمهيد:       
حتى آب/ أغسطس 2022، يكون قد مضى على وقف إطلاق النار في إدلب أكثر من 28 شهراً، وهي أطول فترة تهدئة تشهدها منطقة خفض التصعيد شمال غرب البلاد بين النظام السوري والمعارضة.   
ومع ذلك، لم تتحوّل التهدئة إلى وقف شامل ومستدام لإطلاق النار، مما جعل المنطقة تشهد باستمرار تصعيداً، تنخفض أو ترتفع حدّته، كنتيجة لعدم توصّل روسيا وتركيا إلى اتفاق نهائي حول مصير المنطقة.   
إنّ استحضار سيناريو انهيار التهدئة في إدلب يرتبط بشكل كبير بعودة التصعيد على نحو غير معتاد، من نشاط سلاح الجو، وحملات القصف الصاروخي العنيف والكثيف بين طرفي النزاع، وعودة نشاط التنظيمات الجهادية. ورغم أنّ ذلك يحصل بين فترة وأخرى غير أنّه غالباً ما يتزامن أو يرتبط إما مع خفض التزام أحد الضامنين بالتعهدات حول التفاهمات المشتركة، أو مع انعقاد مباحثات دبلوماسية حول المنطقة.   
فعلى سبيل المثال، عندما أعلنت تركيا نيّتها شنّ عملية عسكرية جديدة في سورية نهاية أيار/ مايو، ارتفعت حدّة التصعيد في إدلب بشكل ملحوظ، وعاد نشاط الطيران المسيّر المجهول الذي قصف مرّة قاعدة حميميم وأخرى اجتماعاً عسكرياً في السقيلبية. كما أجرت القوات الروسية وقوات النظام مناورات جنوب المحافظة لأول مرة منذ توقيع مذكرة سوتشي (2020) ، إضافة لإعادة طرح مستقبل المنطقة ومصير التفاهمات حولها ضمن الجولة 18 من مسار أستانا .   
ويحاول تقدير الموقف هذا نقاش سيناريو انهيار التهدئة في إدلب والعوامل المؤثرة فيه، والآثار التي قد تترتب عليه، إضافة لمحددات مواقف الفاعلين الدوليين إزاء واقع المنطقة.       

 

أولاً: محددات مواقف ضامني أستانا في إدلب       

تمتلك كل تركيا وروسيا وإيران محددات خاصة ترسم مواقف كل دولة على حدة في ملف منطقة خفض التصعيد، ونتيجة لاختلاف المصالح تحولت إدلب إلى إحدى عقد المشهد السوري المستعصية.     
 
1. تركيا:       
 
منذ إعلان تركيا عملية درع الربيع ثم توقيع مذكرة موسكو (2020) واللتين بموجبهما تم إرساء التهدئة في إدلب، بات الخطاب الرسمي يعتبر أي هجمات على المنطقة كتهديد للأمن القومي ، ويبدو ذلك مرتبطاً بعدد من المحدّدات وهي:       
• إرساء الاستقرار لمنع حدوث موجات هجرة جديدة نحو تركيا، أو باتجاه الشريط الحدودي، والتي لطالما شكّلت هاجساً أمنياً وسياسياً بالنسبة لتركيا. لذلك، عملت خلال فترة التهدئة على تحويل إدلب لمنطقة آمنة على أمل إعادة مزيد من اللاجئين إليها وإعادة النازحين إلى منازلهم، غير أنّ ذلك ما زال مرتبطاً بالانتقال من خفض التصعيد إلى وقف إطلاق النار المستدام.     
وبطبيعة الحال، تُعتبر قضية الهجرة أحد أهم ركائز السياسة الداخلية في تركيا، مما يجعل الاستقرار في إدلب أحد المحددات الرئيسية لموقف تركيا إزاء المنطقة. يُمكن ملاحظة هذا الاهتمام البالغ مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التركية المقرر انعقادها في صيف عام 2023، حيث أطلق الرئيس رجب طيّب أردوغان وعوداً لإعادة توطين قرابة مليون لاجئ ، مع تزايد الانتقادات للحزب الحاكم بسبب اللاجئين.       
• ضمان أمن الحدود بالحفاظ على عمق يتراوح بين 30 و60 كم بين مناطق سيطرة النظام التي تنتشر فيها الميليشيات الإيرانية وبين الأراضي التركية، حتى لا يتم تنفيذ هجمات ضدها، لا سيما في حال حصول تنسيق بين النظام ووحدات حماية الشعب PYD، على غرار إعلان قوات سورية الديمقراطية عام 2018 الاستعداد لمشاركة قوات النظام في الهجوم على إدلب.     
• التأثير في العملية السياسية عبر ضمان استمرار انتشار القوات التركية لمنع النظام من السيطرة على مزيد من مناطق المعارضة شمال البلاد بما في ذلك إدلب. من شأن ذلك أن يُعزز دور تركيا كضامن بالنسبة للمعارضة ويمنحها قدرة أكبر على التأثير في مسار الحل.     


2. روسيا:        

• تأمين قاعدة حميميم بتقويض سيطرة وقدرة المعارضة في إدلب المعارضة، عبر توسيع سيطرة النظام، أو إنشاء مناطق أمنية ضمن إدلب خالية من السلاح حول الطرق الدولية، أو قصف المنشآت العسكرية التابعة للفصائل. وقاعدة حميميم تُعتبر أهم موقع عسكري لروسيا على البحر المتوسط، وتتعرّض باستمرار للاستهداف بالطائرات المسيّرة مع كل موجة تصعيد غرب سورية .     
• إعادة سيادة النظام السوري على إدلب بفتح الطرق الدولية واستعادة إدارته لمعبر باب الهوى الحدودي وعودة عمل مؤسسات الدولة الرسمية في مركز المحافظة وصولاً لإعادة بسط سيطرته على المنطقة. من شأن ذلك أن يُضعف المعارضة السورية سياسياً وعسكرياً ويمنح النظام فرصة لتقليص حجم تأثير العقوبات الاقتصادية ويتيح لروسيا التأثير بشكل أكبر في مسار العملية السياسية، بحيث تتخلّى المعارضة عن المطالبة بتغيير السلطة أو تقييد صلاحياتها .     
ولا يعني هذا المحدّد معارضة روسيا لوجود تركيا العسكري في إدلب وسورية عموماً غير أنّها غالباً ما تدفع نحو جعله مؤقتاً ومحدود الانتشار والعمق وبموجب مراجعة لاتفاقية أضنة أي بالاتفاق مع النظام .     
• التأثير على سياسات تركيا باستخدام روسيا لإدلب كمساحة جغرافية للضغط على تركيا عسكرياً وسياسياً، وتوظيف هذا الضغط في قضايا داخل سورية وخارجها كتلك التي تتعلّق بنفوذها وتأثيرها العالمي. يُمكن ملاحظة ذلك برفض موسكو إجراء مساومة مع تركيا بشأن سورية مقابل عدم انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو .     
 

3. إيران:        
• تأمين مدينة حلب عبر دعم استعادة سيطرة النظام على مناطق إدلب التي تعتبر بمثابة قاعدة عمليات عسكرية وأمنية ضد نفوذ إيران في المدينة التي تحاول تحسين فرص الاستثمار الاقتصادي فيها بشكل كبير، إلى جانب ما تحظى به من اهتمام لديها ثقافياً وعسكرياً.     
• التأثير على سياسات تركيا برفض أو عرقلة أي حل لا يقود إلى استعادة سيطرة النظام السوري على كامل منطقة إدلب. بذلك تعمل طهران على ممارسة الضغوط المستمرة على أنقرة ودفعها للاستجابة إلى مطالبها وعدم تخطي مصالحها داخل وخارج سورية.     

 
ثانياً: العوامل المؤثرة في انهيار التهدئة       
 
إن استدامة التهدئة في إدلب أو انهيارها مرتبط بعوامل عديدة:   
        
 
1. المفاوضات الروسية – التركية:       
 
إن الاستقرار في محافظة إدلب يتأثر بشكل مباشر بالعلاقة بين الدول الضامنة للتهدئة، حيث يزداد التصعيد عند توتر العلاقات بينها، ويسود الهدوء مجدداً مع حل النقاط الخلافية بين الضامنين، وتحديداً تركيا وروسيا.       
وتخوض الدول الضامنة مؤخراً مفاوضات على مستقبل النفوذ وحدود السيطرة، فتبحث تركيا عن توسيع عملياتها العسكرية ضد قوات سورية الديمقراطية لتقويض سيطرتها قرب المنطقة الحدودية، بالمقابل فإن روسيا تطالب بتنفيذ مذكرات التفاهم المتعلقة بإدلب، بالإضافة إلى مطالبة تركيا بالتعاون مع النظام السوري .     
إن التوصل إلى توافقات مرضية للأطراف حول مناطق النفوذ، ومصير قسد، وتنفيذ التفاهمات المتبادلة المتعلقة بشمال شرق وشمال غرب سورية، سيعني استدامة التهدئة، أما تصاعد الخلافات وتمسك كل طرف بمقاربته سيقود إلى تصعيد قد يصل إلى انهيار واسع للتهدئة، خاصة إذا اتجه أي طرف لمحاولة فرض رؤيته كأمر واقع على باقي الضامنين، كأن تقوم تركيا مثلاً بالعمل على تنفيذ عملية عسكرية شمال حلب بشكل غير منسق مع روسيا، أو أن تحاول روسيا تطبيق تفاهم سوتشي (2018) والمذكرة الملحقة الموقعة في آذار/ مارس 2020، المتضمنة إنشاء ممر آمن على طرفي الطريق الدولي M4 .     
 
2. الصراع في أوكرانيا:       
تصدّر الصراع في أوكرانيا الأولويات الروسية منذ اندلاعه في شباط/ فبراير 2022، وقد طالت آثاره الملف السوري من الناحية السياسية، حيث ضغطت موسكو على النظام السوري ومنعته من استمرار المشاركة في جلسات اللجنة الدستورية .     
وبسبب ما يمثله الصراع الأوكراني من أهمية بالغة بالنسبة لروسيا، فمن غير المستبعد أن تقوم موسكو بردود أفعال في إدلب تؤثر على الأمن القومي التركي، نتيجة السياسات التي تبنتها أنقرة في دعم حكومة كييف ، على غرار ما فعلته روسيا مع إسرائيل، عندما قيدت ضرباتها الجوية الوقائية ضد الميلشيات الإيرانية في سورية .       
يُمكن ملاحظة تأثير الصراع في أوكرانيا على التهدئة في إدلب عند توقيع اتفاقية شحن الحبوب والمواد الغذائية من أوكرانيا بين تركيا وروسيا، حيث سبق التفاهم تصعيد في المنطقة وتلاه عودة للهدوء.     
 
3. موقف إيران:        
 
وسعّت الميليشيات الإيرانية من نشاطها وحضورها في شمال غرب سورية منذ شباط/ فبراير 2022، فيما بدا أنها خطوة لإعادة انتشار جرت بالتنسيق مع روسيا، التي ترغب بكسب موقف طهران إلى جانبها بعد احتدام الصراع بين موسكو والغرب.       
انتشار الميليشيات الإيرانية استهدف بشكل أساسي منطقة العمليات العسكرية المحتملة ضد قسد شمال حلب، كما قادت الميليشيات في مناسبات عديدة التصعيد الميداني ضد فصائل المعارضة والنقاط العسكرية التركية بريف حلب ، قبل أن تعرض طهران الوساطة على تركيا من أجل التوصل إلى تسوية تعالج مخاوف أنقرة الأمنية.     
عموماً، يُمكن القول: إن تجاوز تركيا لموقف إيران والاكتفاء بالتفاهمات مع روسيا، دون تقديم ضمانات بشأن مناطق نفوذها شمال غرب سورية المتمثلة ببلدتي نبل والزهراء ومدينة حلب وضواحيها الغربية، قد يدفع طهران إلى تصعيد ميداني يكون أوسع هذه المرة، ويؤدي إلى تقويض التهدئة.     
 
4. موقف الولايات المتحدة:       
من الممكن أن تتأثّر التهدئة في إدلب بمسار المفاوضات بين تركيا والولايات المتحدة، فمن شأن تعزيز التقارب بين الطرفين أن يؤثر على نفوذ روسيا في سورية، وبالتالي احتمال نشوب موجة تصعيد جديدة شمال غرب البلاد.     
إن ما قد يُهدد التنسيق بين تركيا وروسيا في تركيا مساعي أمريكا لتقويض العمل المشترك بين الطرفين، وقد يكون ذلك بالموافقة على شن عملية عسكرية جديدة في سورية ضد قسد أو إعادة الاتفاق على إنشاء منطقة آمنة على غرار وثيقة أنقرة (2019) حول سورية. لكن ذلك قد لا يرتبط فقط باتفاق الطرفين على القضايا الخلافية حول سورية، بل خارجها كصفقة الطائرات وغيرها .     
 
ثالثاً: الآثار المحتملة لانهيار التهدئة       
من المتوقع أن ينجم عن انهيار التهدئة شمال غرب سورية اندلاع مواجهات بين قوات النظام وفصائل المعارضة، وقد تتركز العمليات القتالية على مناطق جنوب إدلب المتاخمة لمعرة النعمان وسراقب، وتمتد إلى شمال إدلب وريف حلب الغربي على الخط الواصل بين دارة عزة وقبتان الجبل.     
ومن غير المستبعد أن تبدي قسد مرة أخرى الاستعداد للمشاركة في أي عمليات قتالية في إدلب إلى جانب قوات النظام.     
أيضاً، يُفترض أن يترتب على أي انهيار للتهدئة آثار إنسانية، تتمثل بموجات نزوج جديدة باتجاه الشريط الحدودي، أو منطقتي عمليات درع الفرات وغصن الزيتون، حيث سيبحث السكان عن مناطق آمنة نسبياً وبعيدة عن مناطق التصعيد. وعلى غرار حالات التصعيد السابقة قد يلجأ النظام وحلفاؤه لإحداث أزمة إنسانية متفاقمة في إدلب بهدف الضغط على تركيا.     
إن الانزلاق باتجاه سيناريو انهيار التهدئة سيدفع بالقوات التركية المنتشرة على خطوط التماس في إدلب إلى استخدام القوة كنوع من الضغط بهدف العودة إلى المفاوضات مجدداً، وبالتالي استعادة حالة التهدئة، على اعتبار أن أنقرة لا ترحب بتصعيد واسع يؤثر على خططتها المتعلقة بتسهيل عودة اللاجئين إلى مناطق آمنة نسبياً قبيل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. من غير المستبعد أن تلجأ أنقرة إلى توفير دعم لفصائل المعارضة لتنفيذ هجمات نوعية ضد قوات النظام من أجل رفع تكلفة استمرار التصعيد، وبالتالي إجبار الطرف الآخر على إعادة حساباته.     
ومن المحتمل أن تطال آثار التصعيد في إدلب ملفات أخرى تمتلك فيها تركيا خيارات تتيح لها الضغط على روسيا، والحديث هنا عن أذربيجان التي شهدت جبهاتها نوعاً من التسخين قبيل انعقاد قمة سوتشي الأخيرة ، بإضافة إلى أوكرانيا وليبيا، فيمكن لتركيا أن تلوح بالانحياز ضد المصالح الروسية والتخلي عن مراعاتها للحساسية الروسية فيها.     
وبطبيعية الحال إنّ انهيار وقف إطلاق النار في إدلب سيؤدي لاتساع الخلافات بين الدول الضامنة ومسار أستانا، ويؤثر على التعاون والعمل المشترك بين الطرفين شرق الفرات. ومن غير الضروري أن تتأثر العملية السياسية في إطار اللجنة الدستورية.     
ومع ذلك، فإن الحديث عن آثار لانهيار التهدئة لا تعني عدم قدرة الأطراف على احتواء التصعيد مرة أخرى كما حصل في الحالات السابقة.     
 
خلاصة:       
إن احتمال انهيار التهدئة في إدلب يبقى قائماً طالما أن الأطراف الضامنة لم تتوصل إلى تفاهم نهائي حول النقاط العالقة، من ضمنها حجم الانتشار العسكري التركي الكبير غير المنصوص عليه ضمن مسار أستانا، إضافة إلى آلية تشغيل الطرق الدولية، ومصير هيئة تحرير الشام وغيرها. ورغم ذلك، إن تبقى فرص هذا السيناريو ضعيفة مقارنة مع توجهات الدول الضامنة، من الضغوطات التي تتعرض لها روسيا في أوكرانيا، وامتداد المواجهات إلى شبه جزيرة القرم واستهداف قواعد عسكرية روسية هناك، مقابل تركيز تركيا على ضرورة التهدئة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.     
ومما يجعل فرص العودة إلى المواجهات العسكرية منخفضة، في ظل التقارب الملحوظ بين تركيا وروسيا منذ قمة سوتشي الأخيرة، والتوافق على خطوات اقتصادية وسياسية، من ضمنها اعتماد بنوك تركية لنظام الدفع الروسي "مير"، واستيراد تركيا لبعض السلع بالعملة المحلية بدلاً من الدولار.     
بل إن تركيا قد تتخذ مزيداً من الخطوات المتقدمة باتجاه تطوير الاتصال مع النظام لنقله من القنوات الأمنية إلى السياسية والدبلوماسية في محاولة لتحقيق أهدافها في شمال سورية أي استمرار التهدئة في إدلب وإنشاء منطقة آمنة بعمق 32 كم خالية من عناصر وسلاح حزب العمال الكردستاني في شرق الفرات وغربه.     
ومع ذلك، إنّ انخفاض فرص انهيار التهدئة لا ينفي احتمال لجوء النظام وحلفائه إلى التصعيد الميداني أحياناً لتحقيق مكاسب خلال مسار المفاوضات مع تركيا.     

 

 

لقراءة المادة بشكل كامل يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية ( اضغط هنا )