إدلب بين التوازنات الدولية والمعادلات الميدانية
مايو 20, 2019 1834

إدلب بين التوازنات الدولية والمعادلات الميدانية

حجم الخط

تمهيد 
أطلقت روسيا والنظام السوري في 2 أيار/مايو 2019 حملة برية للتوغل في ريف حماة الشمالي والغربي. وجاءت الحملة بالتوازي مع قصف جوي واسع بدأته طائرات النظام والطائرات الروسية قبل أيام من الحملة البرية. 
تمكّن المهاجمون بعد (11) يوماً من المعارك من السيطرة على حوالي 87 كم2 (أي حوالي أربعة أضعاف مساحة مدينة إدلب). 
لكن التقدم السريع لقوات النظام لم يدم طويلاً، حيث بدأت مرحلة ثانية مختلفة بعد تدخّل فصائل الجبهة الوطنية للتحرير، مزوّدةً بصواريخ مضادة للدروع حصلت عليها من تركيا. وحمل هذا التدخل أكثر من رسالة محلية ودولية، وغيّر من قواعد اللعبة على الأرض في إدلب.  
ولا يمكن فصل معارك ريف حماة وريف اللاذقية عن السياقات السياسية والميدانية الأوسع، حيث تسعى روسيا لتثبيت مكتسباتها على الأرض قبل الشروع في المسار الدستوري، والذي يتوقع أن يُعلن عن انطلاقته خلال فترة قريبة. 
ويناقش هذا التقرير الدوافع الروسية في الهجوم على إدلب، ودلالات المعارك على المستويين المحلي والخارجي، وأثر هذه المعارك على المسار الميداني والسياسي، والمستقبل المتوقع لمنطقة إدلب وموقعها في الحل السياسي. 

 

المناطق التي خسرتها فصائل المعارضة إدلب وحماه في أيار/مايو 2019

المناطق التي تعرضت للقصف في إدلب وحماه في أيار/مايو 2019

ماذا يريد المهاجمون من إدلب؟ 
يسعى النظام إلى بسط نفوذه على أكبر مساحة من سورية، لأن أي كيلو متر مربع إضافي يعني المزيد من النفوذ والسيطرة، كما يعني إمكانية أكبر لمقاومة ضغوط الفاعلين، بمن فيهم حلفاؤه، وتقليصاً لكابوس المناطق الخارجة عن سيطرته، والذي بدأ في نهاية عام 2011، ولا يبدو أنه سينتهي قريباً. 
وبالمقابل، فإنّ روسيا تدرك أن منطقة إدلب سوف تبقى خارج سيطرة النظام على المدى المتوسط، لأنها تحمل رمزية خاصة، ولن يبقى في غيابها وجود لطرف معارض يمكن أن يُبرَم الحل السياسي معه. 
لكن مع إدراكها لهذه الرمزية، ورغبتها بالمحافظة عليها، فإنّ تحركها السياسي والميداني فيما يتعلق بإدلب يتحدد بجملة من الأهداف الرئيسية، وهي كما يلي: 
1. حماية القواعد الروسية في اللاذقية وطرطوس، ووقف كل الهجمات التي تنطلق من إدلب وريف اللاذقية. وقد حاولت تحقيق هذا الهدف من قبل من خلال المنطقة العازلة منزوعة السلاح الثقيل، لكن ذلك لم يؤدّ لوقف هجمات الطائرات دون طيار والقصف بصواريخ غراد. 
2. فرض معادلات ميدانية تجبر الفاعلين على الموافقة القسرية على وقف الأعمال القتالية، بما ينهي العمل العسكري نهائياً بين مختلف الأطراف إلى حين الوصول إلى الحل السياسي الشامل. 
3. المحافظة على ديمومة مسار الأستانة، بما يعني التشبّث بالشراكة التركية في هذا المسار، لأن خروج تركيا منه يعني نهاية المسار المؤكدة، ويُفقد روسيا القدرة على فرض حلول سياسية لاحقة، وهو وحده ما يُحقق لروسيا غاياتها من الحرب. 
ويُلاحظ أثناء الحملة الأخيرة غياب التصريحات الروسية العدائية لتركيا، وإصرار الجانب الروسي على إنكار مشاركته العسكرية في المعركة على إدلب، رغم وضوح هذه المشاركة الجوية. 
4. الالتزام بالتوافقات الدولية مع مختلف الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا. وتضطر روسيا بموجب هذه التوافقات إلى تنحية الخيارات العسكرية الشاملة، حتى لو امتلكت القدرة الميدانية على فرضها. 
 
الاستراتيجية الروسية في إدلب
تترك المعطيات السابقة مساحة للمناورة الروسية، إذ تدرك روسيا أولاً أن رمزية إدلب ترتبط بوجود مدينة إدلب وما حولها، ولا ترتبط ببقاء كامل محافظة إدلب وريف حماة واللاذقية وريف حلب الغربي، والتي تُشكّل حالياً منطقة خفض التصعيد. وبالتالي فإنّها تسعى حالياً لقضم بعض الخواصر الرخوة، والتي لا تؤثر على المسار العام لتوافقاتها مع تركيا والأطراف الدولية الأخرى، وتبعد فصائل المنطقة في نفس الوقت عن القواعد الروسية، وتحيّد أي خطر ممكن من طرفهم. 
وستستمر روسيا في محاولات القضم هذه على المدى القصير على الأقل، وإلى أن تُطلق أعمال اللجنة الدستورية. وتشمل الخواصر الرخوة لمنطقة إدلب ما تبقى من ريف حماة الشمالي وجسر الشغور. 
كما يُجبر الضغط الميداني هيئةَ تحرير الشام على إعادة التفكير باستراتيجيتها المتعنتة، والقائمة على اعتقادها بأنها قادرة على مقاومة الهجمات الروسية، ومنع تقدم النظام إلى مناطق سيطرتها، وهو ما ثبت تهاويه تماماً خلال المعارك الأخيرة. 
ويُمكن القول إن المعركة الأخيرة على إدلب سعت –ضمن جملة من الأهداف- لتحديد مصير هيئة تحرير الشام، وليس مصير إدلب. وتمكّنت روسيا بالفعل من تحجيم الهيئة، وكسر صورتها أمام جمهورها وأمام الفاعلين المحليين والدوليين. وهو ما دفع الهيئة لإطلاق حملة دعائية لتبرير الهزيمة، وتشجيع حزب التحرير في إدلب على تنظيم حملة تُحمّل الجانب التركي وحده مسؤولية الهزيمة.
وتحاول روسيا ضمن هذه الاستراتيجية إنهاء أي قدرة لفصائل منطقة إدلب على زعزعة الاستقرار في المرحلة التي ستلي إطلاق اللجنة الدستورية وحتى إقرار الحل السياسي، لأن المعارك في تلك المرحلة سوف تشوه المسار السياسي، وستضعف المخطط الروسي القائم على فرض الاستقرار قبل إطلاق المسار الدستوري ثم الانتخابي. 
 
دلالات المعارك الأخيرة
حملت المعارك الأخيرة في ريف حماة دلالات عديدة على المستويات الميدانية والسياسية، وتجاوزت المعركة حدود البلدات التي يدور فيها القتال إلى تحديد شكل العلاقة بين الدول الضامنة من جهة، وبين الفاعلين في إدلب من جهة أخرى. 
ويمكن حصر أبرز الدلالات فيما يلي: 
1. أظهر التدخل الكبير لفصائل الجبهة الوطنية للتحرير، مزوّدة بأسلحة نوعية من تركيا، عدم وجود صفقة بين أنقرة وموسكو بخصوص الهجوم، ولا حتى تغاضٍ تركي عن اتخاذ موقف، لكن ضمن الهوامش القانونية والسياسية المتاحة. 
2. كما عكس الهجوم وتفاصيله وجود هوامش في اتفاق وقف التصعيد بين تركيا وروسيا، إذ تدرك روسيا أن محاولة قضم بعض المناطق الرخوة في منطقة خفض التصعيد لا يؤثر على مضمون التوافق الاستراتيجي بين البلدين، وفي نفس الوقت تملك تركيا هامش تزويد المقاتلين الذين تدعمهم بأسلحة نوعية يمكن أن تكبّد المهاجمين خسائر فادحة، وتوقف تقدّمهم. ولا يعني الهجوم نهاية لاتفاق وقف التصعيد ولا نهاية لمسار الأستانة. 
3. بالتوازي مع الخسائر الفادحة التي تكبّدتها هيئة تحرير الشام في المناطق التي كانت تخضع لنفوذها في ريف حماة الشمالي، والأداء المتواضع الذي قدّمته خلال المعارك، ظهرت فصائل "الجبهة الوطنية" باعتبارها القوة الحقيقية القادرة على وقف تقدّم قوات النظام. وسيترك هذا الأمر أثراً كبيراً على المعادلات الداخلية في إدلب، كما سيترك أثره على ضامني مسار الأستانة، حيث تصر روسيا على أن الهيئة هي الجهة التي تُسيطر على إدلب بالكامل، لكن ما حصل على الأرض أن الجبهة الوطنية هي من أوقف الهجوم الروسي، في الوقت الذي تهاوت مناطق الهيئة سريعاً!. 
4. سعت قوات النظام لاستفزاز الضامن التركي إلى أقصى درجة، من خلال استهداف محيط نقاط مراقبته بالقصف المدفعي، والذي أدّى في إحدى المرات لإصابة جنديين تركيين، في أول حادثة من نوعها من إنشاء هذه النقاط. لكن تركيا عمدت إلى ضبط النفس، وعدم الانجرار إلى مواقف قد تُعقد المشهد بشكل كبير، واختارت بدلاً من ذلك دعم الفصائل بأسلحة يمكن أن تُكبّد النظام خسائر فادحة، وتوقف هجومه بالكامل. 
5. أظهر سير المعارك أن القصف الجوي لا يمكن أن يحسم معركة إدلب، لا الآن ولا مستقبلاً، وأن استخدام القوة البرية للسيطرة عليها بشكل كامل –رغم أنه ليس خياراً روسياً- سيكون بكلف باهظة، ولن يكون بمقدور القوات المدعومة روسياً القيام بهذه المهمة. إذ تحتاج المعركة لمقاتلين عقائديين لا يتوفرون إلا في المعسكر الإيراني
 
خلاصة
حملت المعارك التي انطلقت بداية أيار/مايو في ريف حماة ولاحقاً في ريف اللاذقية دلالات ميدانية وسياسية تتجاوز نطاق المناطق الجغرافية للاشتباكات، لتتعداها إلى شكل موازين القوى في إدلب، وشكل العلاقة بين الدول الضامنة لمسار الأستانة، وحتى مسار الحل السياسي نفسه. 
وعلى ما يبدو، فإنّ المعركة استهدفت روسياً قضم بعض المناطق الرخوة في إدلب، والتي لا تؤثّر على الموقع الاستراتيجي لإدلب. حيث تتوافق روسيا مع بقية الأطراف على ضرورة بقاء إدلب تحت سيطرة المعارضة، وتدرك أن عودتها الكاملة لسيطرة النظام مؤجّلة حتى مرحلة الحل السياسي. 
وكان من أبرز دلالات هذه المعارك نفي وجود توافق روسي-تركي على استهداف إدلب، وهي فكرة روّجت لها العديد من الأطراف في إدلب، وخاصة هيئة تحرير الشام، وحصلت على زخم خارجي. وساعد في انتشار هذه الإشاعة في الأسبوع الأول للمعركة غياب ردود الفعل التركية المعلنة بالمطلق، والاكتفاء لاحقاً ببعض الإشارات المحدودة، رغم أن القصف يتم حول نقاط المراقبة التركية!. 
كما أظهرت المعركةُ هيئة تحرير الشام في أداء عسكري هزيلٍ، بما سينعكس بالضرورة على تقييمها من قبل الفاعلين المحليين والدوليين. ويبدو أن على الهيئة –وفقاً لمعطيات معارك ريف حماة- أن تُعيد النظر بكامل منظومة العلاقات الداخلية والخارجية مع بقية الأطراف العسكرية والمدنية في إدلب، والتخلي عن سياسة الهيمنة والتفرّد، والتعامل مع المعطيات السياسية بناء على حجمها العسكري الحقيقي الذي كشفته المعارك، لا بناء على قدرتها في استئصال بقية الفصائل!.